فصل: تفسير الآيات رقم (21- 24)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 24‏]‏

‏{‏وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ‏(‏21‏)‏ وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏22‏)‏ سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ‏(‏23‏)‏ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ‏(‏24‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأخرى لم تقدروا عليها‏}‏ يعني وعدكم الله فتح بلدة أخرى لم تقدروا عليها ‏{‏قد أحاط الله بها‏}‏ يعني حفظها لكم حتى تفتحوها ومنعها من غيركم حتى تأخذوها، وقال ابن عباس‏:‏ علم الله أن يفتحها لكم واختلفوا فيها فقال ابن عباس‏:‏ هي فارس والروم وما كانت العرب تقدر على قتال فارس والروم بل كانوا خولاً لهم حتى أقدرهم الله عليها بشرف الإسلام وعزه‏.‏ وقيل‏:‏ هي خيبر وعدها الله نبيه صلى الله عليه وسلم قبل أن يصيبها ولم يكونوا يرجونها ففتحها الله لهم‏.‏ وقيل‏:‏ هي مكة‏.‏ وقيل‏:‏ هو كل فتح فتحه المسلمون أو يفتحونه إلى آخر الزمان ‏{‏وكان الله على كل شيء قديراً‏}‏ أي‏:‏ من فتح القرى والبلدان لكم وغير ذلك ‏{‏ولو قاتلكم الذين كفروا‏}‏ أي أسد وغطفان وأهل خيبر ‏{‏لَولّوا الأدبار‏}‏ أي لانهزموا عنكم ‏{‏ثم لا يجدون ولياً ولا نصيراً‏}‏ يعني من تولى الله خلذلانه فلا ناصر له ولا مساعد ‏{‏سنة الله التي قد خلت من قبل‏}‏ يعني هذه سنة الله في نصر أوليائه وقهر أعدائه ‏{‏ولن تجد لسنة الله تبديلاً‏}‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم‏}‏ سبب نزول هذه الآية ما روي عن أنس بن مالك‏:‏ «أن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسلحين يريدون غدر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ فأخذهم سبايا فاستحياهم فأنزل الله تعالى وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أطفركم عليهم» انفرد بإخراجه مسلم وقال عبد الله بن مغفل المزني‏:‏ «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية في أصل الشجرة التي قال الله في القرآن وعلى ظهره غصن من أغصان تلك الشجرة فرفعته عن ظهره وعلي بن أبي طالب بين يديه يكتب كتاب الصلح فخرج علينا ثلاثون شاباً عليهم السلاح فثاروا في وجوهنا فدعا عليهم نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الله بأبصارهم فقمنا إليهم فأخذناهم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ جئتم في عهد أو هل جعل لكم أحد أماناً قالوا اللهم لا فخلى سبيلهم»‏.‏

ومعنى الآية، أن الله تعالى ذكر منته بحجزه بين الفريقين حتى لم يقتلوا وحتى اتفق بينهم الصلح الذي كان أعظم من الفتح وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو الذي كف أيديهم عنكم‏}‏ يعني أيدي أهل مكة ‏{‏وأيديكم عنهم‏}‏ أي قضى بينهم وبينكم بالمكافة والمحاجرة ‏{‏ببطن مكة‏}‏ قيل‏:‏ أراد به الحديبية‏.‏ وقيل‏:‏ التنعيم وقيل‏:‏ وادي مكة ‏{‏من بعد أن أظفركم عليهم‏}‏ أي مكنكم منهم حتى ظفرتم بهم ‏{‏وكان الله بما تعملون بصيراً‏}‏ قوله عز وجل‏:‏

‏{‏هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام‏}‏ ‏(‏ذكر صلح الحديبية‏)‏

روى الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه قالا‏:‏ «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه يريد زيارة البيت لا يريد قتالاً وساق معه سبعين بدنة والناس سبعمائة رجل وكانت كل بدنة عن عشرة نفر فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدي وأشعره وأحرم منها بعمرة وبعث عيناً له من خزاعة يخبره عن قريش‏.‏ وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بغدير الأشطاط قريباً من عسفان أتى عتبة الخزاعي‏.‏ وقال‏:‏ إن قريشاً قد جمعوا لك جموعاً وقد جمعوا لك الأحابيش وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أشيروا عليّ أيها الناس أترون أن أميل على ذراري هؤلاء الذين عاونوهم فنصيبهم فإن قعدوا قعدوا موتورين وإن نجوا تكن عنقاً قطعها الله أو ترون أن نؤم البيت لا نريد قتال أحد ولا حرباً فمن صدنا عنه قاتلناه‏.‏ فقال أبو بكر‏:‏ يا رسول الله إنما جئت عامداً لهذا البيت لا تريد قتال أحد ولا حرباً فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه قال‏:‏ امضوا على اسم الله فنفذوا‏.‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هو بقترة الجيش فانطلق يركض نذيراً لقريش‏.‏ وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت راحلته فقال الناس‏:‏ حل حل‏.‏ فألحت فقالوا خلأت القصواء فقال النبي صلى الله عليه وسلم من خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل ثم قال‏:‏ والذي نفسي بيده لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يعظمون فيها حرمات الله وفيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها ثم زجرها فوثبت‏.‏ قال‏:‏ فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتربضه الناس تربضاً فلم يلبث الناس أن نزحوه‏.‏ وشكا الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم العطش، فنزع سهماً من كنانته وأعطاه رجلاً من أصحابه يقال له ناجية بن عمير وهو سائق بدن النبي صلى الله عليه وسلم فنزل في البئر فغرزه في جوفه‏.‏ فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه، فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة فقال‏:‏ إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا على أعداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏» إنا لم نجئ لقتال أحد ولكنا جئنا معتمرين وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم فإن شاؤوا ماددتهم ويخلوا بيني وبين الناس فإن أظهر‏.‏

فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل الناس فيه فعلوا وإلا فقد جموا وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ولينفذن الله أمره‏.‏ فقال بديل‏:‏ سأبلغهم ما تقول‏.‏ فانطلق حتى أتى قريشاً، فقال إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل وسمعناه يقول قولاً فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا فقال سفهاؤهم‏:‏ لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء‏.‏ وقال ذوو الرأي منهم‏:‏ هات ما سمعته‏.‏ قال‏:‏ سمعته يقول كذا وكذا فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم فقام عروة بن مسعود الثقفي، فقال‏:‏ أي قوم، ألستم بالولد‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ أولست بالوالد‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ فهل تتهموني‏؟‏ قالوا‏:‏ لا قال‏:‏ ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ‏؟‏ فلما ألحّوا عليّ جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ فإن هذا الرجل قد عرض عليكم خطة رشد فأقبلوها ودعوني آتية قالوا ائته فأتاه فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحواً من قوله لبديل، فقال عروة عند ذلك‏:‏ يا محمد أرأيت إن استأصلت قومك فهل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك وإن تكن الأخرى فإني والله لأرى وجوهاً وإني لأرى أشواباً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك فقال له أبو بكر رضي الله عنه‏:‏ امصص بظر اللات أنحن نفرُّ عنه وندعه‏؟‏ فقال‏:‏ من ذا‏؟‏ قالوا‏:‏ أبو بكر‏.‏ قال‏:‏ أما والذي نفسي بيده لولا يد لك عندي ولم أجزك بها لأجبتك‏.‏ قال وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فكلما كلمه أخذ بلحيته والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنصل السيف‏.‏ وقال‏:‏ أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فرفع عروة رأسه، فقال‏:‏ من هذا قالوا المغيرة بن شعبة فقال‏:‏ أي غدر ألست أسعى في غدرتك‏؟‏ وكان المغيرة قد صحب قوماً في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أما الإسلام فأقبل وأما المال فلست منه في شيء‏.‏

ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينه قال‏:‏ فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمر ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون في وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون النظر إليه تعظيماً له فرجع عروة إلى أصحابه وقال‏:‏ أي قوم‏.‏

والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي‏.‏ والله إن رأيت ملكاً يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً والله ما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره‏.‏

وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه‏.‏ وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون النظر إليه تعظيماً له وقد عرض عليكم خطة رشد فأقبلوها فقال رجل من كنانة‏:‏ دعوني آته‏.‏ فقالوا‏:‏ ائته‏.‏ فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ وأصحابه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا فلان من قوم يعظمون البدن فابعثوها له فبعث له واستقبله الناس يلبون فلما رأى ذلك قال‏:‏ سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت‏.‏ فلما رجع إلى أصحابه قال‏:‏ رأيت البدن قد قلدت وأشعرت فما أرى أن يصدوا عن البيت‏.‏ ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة وكان يومئذ سيد الأحابيش فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ إن هذا من قوم يتألهون فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه، فلما رأى الهدي يسيل إليه من عرض الوادي في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله، رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعظاماً لما رأى فقال‏:‏ يا معشر قريش إني قد رأيت ما لا يحل صد الهدى في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله قالوا له‏:‏ اجلس فإنما أنت رجل أعرابي لا علم لك‏.‏ فغضب الحليس عند ذلك وقال‏:‏ يا معشر قريش والله ما على هذا حالفناكم ولا على هذا عاقدناكم أيصد عن بيت الله من جاءه معظماً له‏؟‏ والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له أو لأنفرن بالأحبيش نفرة رجل واحد‏.‏ فقالوا‏:‏ مه كفَّ عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص فقال‏:‏ دعوني آته‏.‏ فقال‏:‏ ائته فلما أشرف عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ هذا مكرز وهو رجل فاجر فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو قال معمر فأخبرني أيوب عن عكرمة أنه لما جاء سهيل قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ قد سهل لكم من أمركم قال معمر قال الزهري في حديثه فجاء سهيل بن عمرو فقال هات أكتب بيننا وبينكم كتاباً فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب فقال‏:‏ اكتب بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ فقال سهيل‏:‏ أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب فقال المسلمون والله ما نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي‏:‏ اكتب باسمك اللهم‏.‏

ثم قال له‏:‏ اكتب هذا ما قضى عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ فقال سهيل لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن هذا البيت ولا قاتلناك ولكن اكتب محمد بن عبد الله‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ والله إني لرسول الله وإن كذبتموني اكتب محمد بن عبد الله‏.‏ قال الزهري وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ وعلي أن يخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به فقال سهيل‏:‏ والله لأتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة ولكن ذلك من العام المقبل فكتب فقال سهيل وعلي أن لا يأتيك منا رجلاً وإن كان على دينك إلا رددته إلينا‏.‏ فقال المسلمون‏:‏ سبحان الله كيف يرد إلى المشركين من جاء مسلماً‏.‏

وروي عن البراء قصة الصلح وفيها قالوا‏:‏ لو نعلم أنك رسول الله ما منعناك شيئاً ولكن أنت محمد بن عبد الله قال‏:‏ أنا رسول الله وأنا محمد بن عبد الله ثم قال لعلي‏:‏ امحِ رسول الله‏.‏ قال‏:‏ لا والله لا أمحوك أبداً قال‏:‏ فأرنيه، فأراه إياه فمحاه النبي صلى الله عليه وسلم بيده‏.‏ وفي رواية، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب وليس يحسن أن يكتب فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله قال البراء‏:‏ على ثلاثة أشياء على أن من أتاه من المشركين رده إليهم ومن أتاه من المسلمين لم يردوه وعلى أن يدخلها من قابل ويقيم ثلاثة أيام ولا يدخلها بجلباب السلاح السيف والقوس ونحوه‏.‏

وروى ثابت عن أنس أن قريشاً صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم فاشترطوا أن من جاءنا منكم لم نرده عليكم ومن جاءكم منا رددتموه علينا فقالوا يا رسول الله أنكتب هذا‏؟‏ قال‏:‏ نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجاً ومخرجاً‏.‏

‏(‏رجعنا إلى حديث الزهري‏)‏

قال بينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده قد انفلت وخرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين فقال سهيل هذا‏:‏ يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إليّ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنا لم نقض الكتاب بعد قال فوالله إذا لا أصالحك على شيء أبداً‏.‏

قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ فأجره لي‏.‏ قال‏:‏ ما أنا بمجيره لك‏.‏ قال‏:‏ بلى فافعل‏.‏ قال‏:‏ ما أنا بفاعل‏.‏ ثم جعل سهيل يجره ليرده إلى قريش‏.‏ فقال أبو جندل‏:‏ أي معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلماً ألا ترون ما لقيت، وكان قد عذب في الله عذاباً شديداً، وفي الحديث، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ يا أبا جندل احتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك في المستضعفين فرجاً ومخرجاً إنَّا قد قعدنا بيننا وبين القوم عقداً وصلحاً وإنا لا نغدر، فوثب عمر إلى جنب أبي جندل وجعل يقول‏:‏ اصبر يا أبا جندل فإنما هم المشركون ودم أحدهم دم كلب ويدني السيف منه‏.‏

قال عمر‏:‏ ورجوت أن يأخذ السيف فيضربه به فضن الرجل بأبيه وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجوا وهم لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوا ذلك، دخل الناس أمر عظيم حتى كادوا يهلكون وزادهم أمر أبي جندل شرّاً إلى ما بهم‏.‏

قال عمر‏:‏ والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ قال الزهري في حديثه عن مروان والمسور وروى أبو وائل عن سهل بن حنيف قال عمر بن الخطاب فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقلت‏:‏ ألست نبي الله حقاً‏؟‏ قال‏:‏ بلى‏.‏ قلنا‏:‏ ألسنا على الحق وعدونا على الباطل‏.‏ قال‏:‏ بلى‏.‏ قلت‏:‏ أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار‏.‏ قال‏:‏ بلى‏.‏ قلت‏:‏ فلم نعط الدنية في ديننا إذا قال إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري قلت أولست كنت تحدثنا إنّا سنأتي البيت فنطوف به‏؟‏ قال‏:‏ بلى‏.‏ أفأخبرتك أنك تأتيه العام‏؟‏ قلت‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فإنك آتيه وتطوف به‏.‏ قال‏:‏ فأتيت أبا بكر فقلت‏:‏ يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقاً‏؟‏ قال‏:‏ بلى قلت‏:‏ ألسنا على الحق وعدونا على الباطل‏؟‏ قال‏:‏ بلى‏.‏ قلت‏:‏ فلم نعطى الدنية في ديننا‏؟‏ قال‏:‏ أيها الرجل إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس يعصي ربه وهو ناصره فاستمسك بغرزه، فوالله إنه على الحق‏.‏ قلت‏:‏ أليس كان يحدثنا أنه سيأتي البيت ويطوف به‏؟‏ قال‏:‏ بلى‏.‏ أفأخبرك أنه آتيه العام‏؟‏ قلت‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فإنك تأتيه وتطوف به‏.‏ قال عمر‏:‏ فعملت لذلك أعمالاً، فلما فرغ من قضية الكتاب‏.‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه‏:‏ قوموا فانحروا ثم احلقوا فوالله ما قام رجل منهم حتى قال ذلك ثلاث مرات فلما لم يقم أحد منهم قام النبي صلى الله عليه وسلم فدخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس‏.‏ قالت أم سلمة‏:‏ يا نبي الله أتحب ذلك اخرج ثم لا تكلم منهم أحداً كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك ونحر بدنة ودعا حالقاً فحلقه، فلما رأوا ذلك، قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضاً حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً قال ابن عمر وابن عباس‏:‏ حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يرحم الله المحلقين‏.‏

قالوا‏:‏ يا رسول الله والمقصرين‏؟‏ قال‏:‏ يرحم المحلقين‏.‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله والمقصرين‏؟‏ قال‏:‏ يرحم الله المحلقين والمقصرين قالوا‏:‏ يا رسول الله فلم ظاهرت الترحم للمحلقين دون المقصرين‏.‏ قال‏:‏ لأنهم لم يشكوا‏.‏

قال ابن عمر‏:‏ وذلك أنه تربص قوم وقالوا‏:‏ لعلنا نطوف بالبيت‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ وأهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية في هداياه جملاً لأبي جهل في رأسه برة من فضة ليغيظ المشركين بذلك‏.‏ قال الزهري في حديثه‏:‏ ثم جاء نسوة مؤمنات فأنزل الله تعالى ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات‏}‏ حتى بلغ ‏{‏بعصم الكوافر‏}‏ فطلق عمر امرأتين يومئذ كانتا في الشرك فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان والأخرى صفوان بن أمية قال‏:‏ فنهاهم أن يردوا النساء وأمرهم أن يردوا الصداق‏.‏ قال‏:‏ ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فجاءه أبو بصير عتبة بن أسيد رجل من قريش وهو مسلم؛ وكان ممن حبس بمكة فكتب فيه أزهر بن عبد عوف والأخنس بن شريق الثقفي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثا في طلبه رجلاً من بني عامر بن لؤي ومعه مولى لهم فقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالا‏:‏ العهد الذي جعلت لنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا بصير إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت ولا يصلح في ديننا الغدر وإن الله تعالى جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً ثم دفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى إذا بلغا ذا الحليفة نزلوا يأكلون من تمر لهم‏.‏ فقال أبو بصير لأحد الرجلين‏:‏ والله إني لأرى سيفك هذا جيد، فاستله الآخر، فقال‏:‏ أجل والله إنه لجيد لقد جربت به ثم جربت به‏.‏ فقال أبو بصير‏:‏ أرني أنظر إليه فأخذه، منه فضربه حتى برد وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه‏:‏ لقد رأى هذا ذعراً‏.‏ فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ويلك ما لك‏؟‏ قال‏:‏ قتل والله صاحبي وإني لمقتول فوالله ما برح حتى طلع أبو بصير متوشح السيف حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا نبي الله أوفى الله ذمتك قد رددتني إليهم فأنجاني الله تعالى منهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ويل أمه مسعر حرب لو كان معه أحد «‏.‏

فلما سمع ذلك، عرف أن يرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر وبلغ المسلمين الذين كانوا حبسوا بمكة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بصير ويل أمه مسعر حرب لو كان معه أحد فخرج عصابة منهم إليه فانفلت أبو جندل فلحق بأبي بصير حتى اجتمع إليه قريب من سبعين رجلاً فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم لما أرسلت إليهم فمن أتاه فهو آمن فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقدموا إليه المدينة وأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم‏}‏ حتى بلغ ‏{‏حمية الجاهلية‏}‏ وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم وحالوا بينه وبين هذا البيت أخرجه البخاري بطوله سوى ألفاظ منه وهي مستثناة في الحديث‏.‏ منها قوله‏:‏ فنزع سهماً من كنانته، وأعطاه رجلاً من أصحابه، إلى قوله‏:‏ فوالله ما زال يجيش لهم بالري ومنها قوله ثم بعثوا الحليس بن علقمة إلى قوله فقالوا كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا بما نرضى به ومنها قوله هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله، إلى قوله‏:‏ وعليّ أن يخلوا بيننا وبين البيت‏.‏ ومنها قوله‏:‏ وروي عن البراء قصة الصلح، إلى قوله‏:‏ رجعنا إلى حديث الزهري‏.‏ ومنها قوله‏:‏ وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ يا أبا جندل، إلى قوله‏:‏ قال عمر فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت ألست نبي الله حقاً‏؟‏ ومنها قوله‏:‏ قال ابن عمر وابن عباس، إلى قوله‏:‏ وقال الزهري في حديثه ثم جاء نسوة مؤمنات فهذه الألفاظ لم يخرجها البخاري في صحيحه‏.‏

‏(‏شرح غريب ألفاظ الحديث‏)‏

قوله‏:‏ بضع عشرة، البضع‏:‏ في العدد بالكسر وقد يفتح هو ما بين الثلاثة إلى التسعة‏.‏ وقيل‏:‏ ما بين الواحد إلى العشرة‏.‏ قوله‏:‏ وبعث عيناً له أي جاسوساً‏.‏ قوله‏:‏ وقد جمعوا لك الأحابيش‏:‏ هم أحياء من القارة انضموا إلى بني ليث في محاربتهم قريشاً‏.‏ وقيل‏:‏ هم حلفاء قريش وهم بنو الهون بن خزيمة وبنو الحارث بن عبد مناة وبنو المصطلق من خزاعة تحالفوا تحت جبل يقال له‏:‏ حبش فسموا بذلك‏.‏ وقيل‏:‏ هو اسم واد بأسفل مكة‏.‏ وقيل‏:‏ سموا بذلك لتجمعهم‏.‏ والتحبيش‏:‏ التجمع‏.‏ قوله‏:‏ فإن قعدوا قعدوا موتورين، أي منقوصين‏.‏ قوله‏:‏ فنفذوا‏:‏ أي مضوا وتخلصوا‏.‏ قوله‏:‏ إن خالد بن الوليد بالغميم، اسم موضع ومنه كراع الغميم‏.‏ وقوله‏:‏ طليعة الطليعة، الجماعة يبعثون بين يدي الجيش ليطلعوا على أخبار العدو‏.‏ قوله‏:‏ وقترة الجيش‏:‏ هو الغبار الساطع معه سواد‏.‏

قوله‏:‏ يركض نذير، النذير‏:‏ الذي يعلم القوم بالأمر الحادث‏.‏ قوله‏:‏ حلَ حل‏:‏ هو زجر للناقة‏.‏ قوله خلأت القصوا‏:‏ يعني أنها لما توقفت عن المشي وتقهقرت ظنوا ذلك خللاً في خلقها وهو كالحران للفرس فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما خلأت أي ليس ذلك من خلقها ولكن حبسها حابس الفيل، أي منعها عن المسير‏.‏ والذي منع الفيل عن مكة هو الله تعالى والقصوا اسم ناقة النبي صلى الله عليه وسلم ولم تكن قصوا وهو شق الأذن‏.‏ قوله‏:‏ خطة، أي حالة وقضية يعظمون فيها حرمات الله جمع حرمة وهي فروضه وما يجب القيام به يريد بذلك حرمة الحرم ونحوه‏.‏ قوله‏:‏ حتى نزل بأقصى الحديبية بتخفيف الياء وتشديدها، وهي قرية ليست بالكبيرة سميت ببئر هناك عند مسجد الشجرة وبين الحديبية ومكة مرحلة وبينها وبين المدينة تسع مراحل‏.‏ وقال ما لك‏:‏ هي من الحرم‏.‏ وقال ابن القصار‏:‏ بعضها من الحل حكاه في المطالع‏.‏ والثمد‏:‏ الماء القليل الذي لا مادة له‏.‏ والتربض‏:‏ أخذ الشيء قليلاً قليلاً‏.‏ وقوله‏:‏ فما زال يجيش بالري، يقال‏:‏ جاشت البئر بالماء إذا ارتفعت وفاضت‏.‏ والري ضد العطش، والصد الرجوع بعد الورود‏.‏ وقوله‏:‏ وكانت خزاعة عيبة، نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال فلان عيبة نصح فلان إذا كان موضع سره وثقته في ذلك‏.‏ قوله‏:‏ نزلوا على أعداد مياه الحديبية، الماء العد‏:‏ الكثير الذي لا انقطاع له كالعيون وجمعه أعداد‏.‏ قوله‏:‏ ومعهم العوذ المطافيل، العوذ‏:‏ جمع عائذ وهي الناقة إذا وضعت إلى أن يقوى ولدها، وقيل‏:‏ هي كل أنثى لها سبع ليال منذ وضعت‏.‏ والمطافيل‏:‏ جمع مطفل وهي الناقة معها فصيلها وهذه استعارة استعار ذلك للناس وأراد بهم أن معهم النساء والصبيان‏.‏ قوله‏:‏ وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب أي، أضرت بهم وأثَّرت فيهم‏.‏ وقوله‏:‏ ماددتهم أي جعلت بيني وبينهم مدة‏.‏ قوله‏:‏ وإلا فقد جموا، أي‏:‏ استراحوا‏.‏ والجمام‏:‏ بالجيم الراحة بعد التعب‏.‏ قوله‏:‏ تنفرد سالفتي السالفة الصفحة والسالفتان صفحتا العنق‏.‏ وقيل‏:‏ السالفة حبل العنق وهو ما بينه وبين الكتف وهو كناية عن الموت لأنها لا تنفرد عنه إلا بالموت‏.‏ قوله‏:‏ إني استنفرت، يقال‏:‏ استنفر القوم إذا دعاهم إلى قتال العدو، وعكاظ‏:‏ اسم سوق كانت في الجاهلية معروفة‏.‏ وقوله‏:‏ بلحوا على فيه لغتان التخفيف والتشديد وأصل التبليح‏:‏ الإعياء والفتور‏.‏ والمراد‏:‏ امتناعهم من إجابته وتقاعدهم عنه‏.‏ قوله‏:‏ استأصلت قومك‏.‏ واجتاح‏:‏ أصله من الاجتياح إيقاع المكروه بالإنسان ومنه الجائحة والاستئصال والاجتياح متقاربان في مبالغة الأذى‏.‏ قوله‏:‏ إني لأرى وجوهاً وأشواباً‏:‏ الأشواب، مثل الأوباش وهم الأخلاط من الناس والرعاع‏.‏ يقال‏:‏ فلان خليق بذلك أي جدير لا يبعد ذلك من خلقه قوله امصص بظر اللات وهي اسم صنم لهم كانوا يعبدونه والبظر ما تقطعه الخافضة وهي الخاتنة من الهنة التي تكون في فرج المرأة وكان هذا اللفظ شتماً لهم يدور في ألسنتهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏هم الذين كفروا‏}‏، يعني كفار مكة، ‏{‏وصدوكم‏}‏ أي منعوكم ‏{‏عن المسجد الحرام‏}‏ أن تطوفوا به ‏{‏والهدي‏}‏ أي وصدوا الهدي وهو البدن التي ساقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت سبعين بدنة ‏{‏معكوفاً‏}‏ أي محبوساً ‏{‏أن يبلغ محله‏}‏ أي منحره وحيث يحل نحره وهو الحرم ‏{‏ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات‏}‏ يعني المستضعفين بمكة ‏{‏لم تعلموهم‏}‏ أي لم تعرفوهم ‏{‏أن تطؤوهم‏}‏ أي بالقتل وتوقعوا بهم ‏{‏فتصيبكم منهم معرة بغير علم‏}‏ أي إثم وقيل‏:‏ غرم الدية، وقيل‏:‏ كفارة قتل الخطأ، لأن الله أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يعلم إيمانه الكفارة دون الدية‏.‏ وقيل‏:‏ هو أن المشركين يعتبونكم ويقولون‏:‏ قتلوا أهل دينهم‏.‏

والمعرة‏:‏ المشقة يقول‏:‏ لولا أن تطؤوا رجالاً مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم فيلزمكم به كفارة أو سيئة وجواب لولا محذوف تقديره لأذن لكم في دخول مكة ولكنه حال بينكم وبين ذلك لهذا السبب ‏{‏ليدخل الله في رحمته من يشاء‏}‏ أي في دين الإسلام من يشاء من أهل مكة بعد الصلح وقيل دخولها ‏{‏لو تزيلوا‏}‏ أي لو تميزوا المؤمنين من الكفار ‏{‏لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً‏}‏ أي بالسبي والقتل بأيديكم وقيل‏:‏ لعذبنا جواب لكلامين أحدهما لولا رجال‏.‏ والثاني‏:‏ لو تزيلوا‏.‏ ثم قال‏:‏ ليدخل الله في رحمته من يشاء يعني المؤمنين والمؤمنات في رحمته أي في جنته‏.‏ قال قتادة‏:‏ في الآية إن الله تعالى يدفع بالمؤمنين عن الكفار كما دفع بالمستضعفين من المؤمنين عن مشركي مكة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 27‏]‏

‏{‏إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ‏(‏26‏)‏ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ‏(‏27‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية‏}‏ أي الأنفة والغضب وذلك حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت ومنعوا الهدي محله ولم يقروا بسم الله الرحمن الرحيم وأنكروا أن يكون محمد رسول الله‏.‏ وقيل‏:‏ قال أهل مكة قد قتلوا أبناءنا وإخواننا ثم يدخلون علينا، فتحدث العرب أنهم دخلوا علينا رغماً منا واللات والعزى لا يدخلونها علينا فكانت هذه ‏{‏حمية الجاهلية‏}‏ التي دخلت قلوبهم ‏{‏فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين‏}‏ أي‏:‏ حتى لا يدخلهم ما دخلهم في الحمية فيعصون الله في قتالهم ‏{‏وألزمهم كلمة التقوى‏}‏‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ «كلمة التقوى لا إله إلا الله» وأخرجه الترمذي‏.‏ وقال‏:‏ حديث غريب‏.‏ وقال علي وابن عمر‏:‏ كلمة التقوى لا إله إلا الله وحده لا شريك له‏.‏ له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير‏.‏ وقال عطاء الخراساني‏:‏ هي لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال الزهري‏:‏ هي بسم الله الرحمن الرحيم ‏{‏وكانوا أحق بها‏}‏ أي من كفار مكة ‏{‏وأهلها‏}‏ أي كانوا أهلها في علم الله، لأن الله تعالى اختار لدينه وصحبة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أهل الخير والصلاح ‏{‏وكان الله بكل شيء عليماً‏}‏ يعني من أمر الكفار وما كانوا يستحقونه من العقوبة وأمر المؤمنين وما كانوا يستحقونه من الخير‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق‏}‏ سبب نزول هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المنام وهو بالمدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية أنه يدخل المسجد الحرام هو وأصحابه آمنين ويحلقوا رؤوسهم فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا وحسبوا أنهم داخلو مكة عامهم ذلك، فلما انصرفوا ولم يدخلوا، شق عليهم ذلك وقال المنافقون‏:‏ أين رؤياه التي رآها‏؟‏ فأنزل الله هذه الآية ودخلوا في العام المقبل‏.‏

وروي عن مجمع بن حارثة الأنصاري قال‏:‏ «شهدنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انصرفنا عنها إذا الناس يهزون الأباعر فقال بعضهم‏:‏ ما بال الناس‏؟‏ قال‏:‏ أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال‏:‏ فخرجنا نرجف فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم واقفاً على راحلته عند كراع الغميم فلما اجتمع الناس قرأ ‏{‏إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً‏}‏ فقال عمر‏:‏ أهو فتح يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ نعم والذي نفسي بيده» ففيه دليل على أن المراد من الفتح هو صلح الحديبية، وتحقيق الرؤيا كان في العام المقبل‏.‏ وقوله‏:‏ لقد صدق الله ورسوله الرؤيا بالحق، أخبر أن الرؤيا التي أراه إياها في مخرجه إلى الحديبية أنه يدخل هو وأصحابه المسجد حق وصدق بالحق أي الذي رآه حق وصدق وقيل‏:‏ يجوز أن يكون بالحق قسماً لأن الحق من أسماء الله تعالى أو قسماً بالحق الذي هو ضد الباطل وجوابه ‏{‏لتدخلن المسجد الحرام‏}‏ وقيل‏:‏ لتدخلن من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه حكاية عن رؤياه فأخبر الله عز وجل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ذلك ‏{‏إن شاء الله آمنين‏}‏ قيل‏:‏ إنما استثني مع علمه بدخوله تعليماً لعباده الأدب وتأكيداً لقوله‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 29‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ‏(‏28‏)‏ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق‏}‏ هذا البيان صدق الرؤيا وذلك أن الله تعالى لا يرى رسوله صلى الله عليه وسلم ما لا يكون فيحدث الناس فيقع خلافه فيكون سبباً للضلال فحقق الله أمر الرؤيا بقوله‏:‏ ‏{‏لقد صدق الله ورسوله الرؤيا بالحق‏}‏ وبقوله ‏{‏هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق‏}‏ وفيه بيان وقوع الفتح ودخول مكة وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليظهره على الدين كله‏}‏ أي يعليه ويقويه على الأديان كلها فتصير الأديان كلها دونه ‏{‏وكفى بالله شهيداً‏}‏ أي في أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه تسلية لقلوب المؤمنين وذلك أنهم تأذوا من قول الكفار لو نعلم أنه رسول الله ما صددناه عن البيت فقال الله تعالى‏:‏ وكفى بالله شهيداً‏.‏ أي‏:‏ في أنه رسول الله، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏محمد رسول الله‏}‏ أي هو محمد رسول الله الذي سبق ذكره في قوله أرسل رسوله‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ شهد له بالرسالة ثم ابتدأ فقال ‏{‏والذين معه‏}‏ يعني أصحابه المؤمنين ‏{‏أشداء على الكفار‏}‏ أي غلاظ أقوياء كالأَسَد على فريسته لا تأخذهم فيهم رأفة ‏{‏رحماء بينهم‏}‏ أي‏:‏ متعاطفون متوادّون بعضهم لبعض كالولد مع الوالد‏.‏ كما قال في حقهم‏:‏ ‏{‏أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين‏}‏ ‏{‏تراهم ركّعاً سجداً‏}‏ أخبر عن كثرة صلاتهم ومداومتهم عليها ‏{‏يبتغون‏}‏ أي يطلبون ‏{‏فضلاً من الله‏}‏ يعني الجنة ‏{‏ورضواناً‏}‏ أي أن يرضى عنهم‏.‏ وفيه لطيفة وهو أن المخلص بعمله لله يطلب أجره من الله تعالى والمرائي بعمله لا يبتغي له أجراً وذكر بعضهم في قوله‏:‏ والذين معه يعني أبا بكر الصديق أشداء على الكفار عمر بن الخطاب رحماء بينهم عثمان بن عفان تراهما ركعاً سجداً علي بن أبي طالب يبتغون فضلاً من الله ورضواناً بقية الصحابة ‏{‏سيماهم‏}‏ أي علامتهم ‏{‏في وجوههم من أثر السجود‏}‏ واختلفوا في هذه السيما على قولين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن المراد في يوم القيامة قيل‏:‏ هي نور وبياض في وجوههم يعرفون به يوم القيامة أنهم سجدوا لله في الدنيا وهي رواية عن ابن عباس‏.‏ وقيل‏:‏ تكون مواضع السجود في وجوههم كالقمر ليلة البدر‏.‏ وقيل‏:‏ يبعثون غراً محجلين يوم القيامة يعرفون بذلك‏.‏ والقول الثاني‏:‏ إن ذلك في الدنيا وذلك أنهم استنارت وجوههم بالنهار من كثرة صلاتهم بالليل‏.‏ وقيل‏:‏ هو السمت الحسن والخشوع والتواضع‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ ليس بالذي ترون ولكنه سيما الإسلام وسجيته وسمته وخشوعه‏.‏ والمعنى‏:‏ أن السجود أورثهم الخشوع والسمت الحسن يعرفون به وقيل هو صفوة الوجه من سهر الليل ويعرف ذلك في رجلين أحدهما سهر الليل في الصلاة والعبادة والآخر في اللهو واللعب فإذا أصبحا ظهر الفرق بينهما فيظهر في وجه المصلي نور وضياء وعلى وجه اللاعب ظلمة‏.‏

وقيل‏:‏ هو أثر التراب على الجباه لأنهم كانوا يصلّون على التراب لا على الأثواب‏.‏ قال عطاء الخراساني‏:‏ دخل في هذه الآية كل من حافظ على الصلوات الخمس ‏{‏ذلك مثلهم في التوراة‏}‏ يعني ذلك الذي ذكر صفتهم في التوراة وتم الكلام هاهنا ثم ابتدأ بذكر نعتهم وصفتهم في الإنجيل فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ومثلهم‏}‏ أي صفتهم ‏{‏في الإنجيل كزرع أخرج شطأه‏}‏ أي إفراطه قبل فراخه‏.‏ قيل‏:‏ هو نبت فما خرج بعده شطؤه ‏{‏فآزره‏}‏ أي‏:‏ قوّاه وأعانه وشد أزره ‏{‏فاستغلظ‏}‏ أي غلظ ذلك الزرع وقوي ‏{‏فاستوى‏}‏ أي تم وتلاحق نباته وقام ‏{‏على سوقه‏}‏ جمع ساق أي على أصوله ‏{‏يعجب الزراع‏}‏ أي يعجب ذلك الزرع زراعه وهو مثل ضربه الله عز وجل لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم مكتوب في الإنجيل أنهم يكونون قليلاً ثم يزدادون ويكثرون قال قتادة‏:‏ مثل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم مكتوب في الإنجيل أنه سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر قيل الزرع محمد صلى الله عليه وسلم والشطء أصحابه والمؤمنون وقيل‏:‏ الزرع هو محمد صلى الله عليه وسلم شطأه أبو بكر فآزره عمر فاستغلظ عثمان فاستوى على سوقه علي بن أبي طالب يعجب الزراع يعني جميع المؤمنين ‏{‏ليغيظ بهم الكفار‏}‏ قيل‏:‏ هو قول عمر بن الخطاب لأهل مكة بعد ما أسلم لا يبعد الله سراً بعد اليوم‏.‏ وقيل‏:‏ قوتهم وكثرتهم ليغيظ بهم الكفار‏.‏ قال مالك بن أنس‏:‏ من أصبح وفي قلبه غيظ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية‏.‏

‏(‏فصل في فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏

‏(‏ق‏)‏ عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «قال خير الناس قرني ثم الذين يلونهم» ‏(‏م‏)‏‏.‏

عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت‏:‏ «سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس خير‏؟‏ قال‏:‏ القرن الذي أنا فيه ثم الثاني ثم الثالث» قوله‏:‏ خير الناس قرني ثم الذين يلونهم يعني الصحابة ثم التابعين وتابعيهم والقرن كل أهل زمان قيل هو أربعون سنة وقيل ثمانون وقيل مائة سنة عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «أبو بكر في الجنة وعمر بن الخطاب في الجنة وعثمان بن عفان في الجنة وعلي بن أبي طالب في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة وعبد الرحمن بن عوف في الجنة وسعد بن أبي وقاص في الجنة وسعيد بن زيد في الجنة وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة» أخرجه الترمذي‏.‏

وأخرج عن سعيد بن زيد نحوه وقال‏:‏ هذا أصح من الحديث الأول عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

«أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم في أمر الله عمر وأشدهم حياء عثمان وأقضاهم علي وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل وأفرضهم زيد بن ثابت وأقرؤهم أبي بن كعب ولكل قوم أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح وما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر أشبه عيسى في ورعه قال عمر فنعرف له ذلك يا رسول الله‏؟‏ قال نعم» أخرجه الترمذي مفرقاً في موضعين، أحدهما‏:‏ إلى قوله أبو عبيدة بن الجراح، والآخر إلى أبي ذر ‏(‏خ‏)‏‏.‏

عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد أحداً أبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فقال‏:‏ «اثبت أحد أراه ضربه برجله فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان»‏.‏

عن ابن مسعود‏:‏ «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ اقتدوا بالذين بعدي من أصحابي أبي بكر وعمر واهتدوا بهدى عثمان وتمسكوا بعهد عبد الله بن مسعود» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب‏.‏ ‏(‏ق‏)‏ عن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه في جيش ذات السلاسل قال‏:‏ فأتيته فقلت‏:‏ أي الناس أحب إليك‏؟‏ قال «عائشة فقلت من الرجال قال أبوها قلت ثم من‏؟‏ قال ثم عمر بن الخطاب فعد رجالاً» عن علي بن أبي طالب قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «رحم الله أبا بكر زوجني ابنته وحملني إلى دار الهجرة وصحبني في الغار وأعتق بلالاً من ماله رحم الله عمراً ليقولن الحق وإن كان مراً تركه الحق وما له من صديق‏.‏ رحم الله عثمان تستحي منه الملائكة، رحم الله علياً اللهم أدر الحق معه حيث دار» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب‏.‏ ‏(‏م‏)‏ عن زر بن حبيش قال‏:‏ سمعت علياً يقول‏:‏ والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي إلي أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق‏.‏ عن عبدالله بن بريدة عن أبيه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما من أحد يموت من أصحابي بأرض إلا بعثه الله قائداً ونوراً لهم يوم القيامة» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب وقد روي عن أبي بريدة مرسلاً وهو أصح‏.‏ ‏(‏ق‏)‏ عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» وعن أبي هريرة نحوه أخرجه مسلم عن عبد الله بن مغفل المزني قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً من بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فبغضبي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله فيوشك أن يأخذه»

سورة الحجرات

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏1‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله‏}‏ من التقديم أي لا ينبغي لكم أن يصدر منكم تقديم أصلاً‏.‏ وقيل‏:‏ لا تقدموا فعلاً بين يدي الله ورسوله‏.‏ والمعنى‏:‏ لا تقدموا بين يدي أمر الله ورسوله ولا نهيهما‏.‏ وقيل‏:‏ لا تجعلوا لأنفسكم تقدماً عند النبي صلى الله عليه وسلم وفيه إشارة إلى احترام رسول الله صلى الله عليه وسلم والانقياد لأوامره ونواهيه والمعنى‏:‏ لا تعجلوا بقول أو فعل قبل أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قبل أن يفعله‏.‏ وقيل‏:‏ لا تقولوا بخلاف الكتاب والسنة واختلفوا في معنى الآية فروي عن جابر أنه في الذبح يوم الأضحى أي‏:‏ لا تذبحوا قبل أن يذبح النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أن أناساً ذبحوا قبل النبي صلى الله عليه وسلم فأمروا أن يعيدوا الذبح‏.‏ ‏(‏ق‏)‏ عن البراء بن عازب قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا ومن ذبح قبل أن يصلي فإنما هو لحم عجله لأهله ليس من النسك في شيء» زاد الترمذي في أوله‏:‏ قال خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر وذكر الحديث‏.‏

وروي عن عائشة أنه في النهي عن صوم يوم الشك أي لا تصوموا قبل نبيكم عن عمار بن ياسر قال‏:‏ «من صام في اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم» أخرجه أبو داود والترمذي وقال‏:‏ حديث حسن صحيح‏.‏ وقيل في سبب نزول هذه الآية‏:‏ ما روي عن عبد الله بن الزبير أنه قدم وفد من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر‏:‏ أمر القعقاع بن معبد بن زرارة‏.‏ وقال عمر‏:‏ بل أمر الأقرع بن حابس‏.‏ قال أبو بكر‏:‏ ما أردت إلا خلافي‏.‏ وقال عمر‏:‏ ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فنزل في ذلك ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله‏}‏ حتى انقضت زاد في رواية فما كان عمر يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه حتى يستفهمه أخرجه البخاري‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت الآية في ناس كانوا يقولون‏:‏ لو نزل في كذا أو صنع كذا وكذا، فكره الله ذلك وقيل في معنى الآية لا تفتئتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء حتى يقضيه الله على لسانه‏.‏ وقيل في القتال وشرائع الدين‏:‏ لا تقضوا أمراً من دون الله ورسوله ‏{‏واتقوا الله‏}‏ أي في تضييع حقه بمخالفة أمره ‏{‏إن الله سميع‏}‏ أي لأقوالكم ‏{‏عليم‏}‏ أي بأفعالكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي‏}‏ أي لا تجعلوا كلامكم مرتفعاً على كلام النبي صلى الله عليه وسلم في الخطاب وذلك، لأن رفع الصوت دليل على قلة الاحتشام وترك الاحترام‏.‏ وقوله‏:‏ لا تقدموا نهي عن فعل وقوله لا ترفعوا أصواتكم نهي عن قول ‏{‏ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض‏}‏ أمرهم أن يبجلوه ويفخموه ويعظموه ولا يرفعوا أصواتهم عنده ولا ينادوه كما ينادي بعضهم بعضاً فيقول يا محمد بل يقولون يا رسول الله يا نبي الله ‏{‏أن تحبط أعمالكم‏}‏ أي لئلا تحبط‏.‏ وقيل‏:‏ مخافة أن تحبط حسناتكم ‏{‏وأنتم لا تشعرون‏}‏ أي بذلك‏.‏ ‏(‏ق‏)‏ عن أنس بن مالك قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي‏}‏ الآية جلس ثابت بن قيس في بيته وقال‏:‏ أنا من أهل النار‏.‏ واحتبس عن النبي صلى الله عليه وسلم فسأل النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ فقال‏:‏ «يا أبا عمرو ما شأن ثابت أيشتكي»‏؟‏ فقال سعد‏:‏ إنه لجاري وما علمت له شكوى‏.‏ قال‏:‏ فأتاه سعد فذكر له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ثابت‏:‏ أنزلت هذه الآية ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنا من أهل النار فذكر ذلك سعد للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بل هو من أهل الجنة»‏.‏

زاد في رواية‏:‏ فكنا نراه يمشي بين أظهرنا رجل من أهل الجنة مسلم وللبخاري نحوه‏.‏ وروي لما نزلت هذه الآية قعد ثابت في الطريق يبكي فمر به عاصم بن عدي فقال‏:‏ ما يبكيك يا ثابت‏؟‏ قال‏:‏ هذه الآية أتخوف أن تكون أنزلت فيّ وأنا رفيع الصوت على النبي صلى الله عليه وسلم أخاف أن يحبط عملي وأن أكون من أهل النار‏.‏ فمضى عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلب ثابتاً البكاء فأتى امرأته جميلة بنت عبد الله بن أبي ابن سلول فقال لها‏:‏ إذا دخلت بيت فرسي فشدي على الضبة بمسمار فضربتها بمسمار‏.‏ وقال‏:‏ لا أخرج حتى يتوفاني الله أو يرضى عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره قال اذهب فادعه فجاء عاصم إلى المكان الذي رآه فيه فلم يجده فجاء إلى أهله فوجده في بيت الفرس‏.‏ فقال له‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك فقال اكسر الضبة فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما يبكيك يا ثابت»‏؟‏ فقال‏:‏ أنا صيت وأتخوف أن تكون هذه الآية نزلت فيّ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أما ترضى أن تعيش حميداً وتقتل شهيداً وتدخل الجنة»‏؟‏ فقال‏:‏ رضيت ببشرى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لا أرفع صوتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم أبداً

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 4‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏3‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله‏}‏ الآية‏.‏ قال أنس‏:‏ فكنا ننظر إلى رجل من أهل الجنة يمشي بين أيدينا فلما كان يوم اليمامة في حرب مسيلمة رأى ثابت من المسلمين بعض انكسار وانهزمت طائفة منهم فقال‏:‏ أف لهؤلاء‏.‏ ثم قال ثابت لسالم مولى أبي حذيفة‏:‏ ما كنا نقاتل أعداء الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذا ثم ثبتا وقاتلا حتى قتلا واستشهد ثابت وعليه درع فرآه رجل من الصحابة بعد موته في المنام وأنه قال له‏:‏ اعلم أن فلاناً رجلاً من المسلمين نزع درعي فذهب به وهو في ناحية من المعسكر عند فرس يستن في طيله وقد وضع على درعي برمته فأت خالد بن الوليد فأخبره حتى يسترد درعي وأتِ أبا بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقل له‏:‏ إن علي ديناً حتى يقضيه عني وفلان من رقيقي عتيق فأخبر الرجل خالداً فوجد الدرع والفرس على ما وصفه فاسترد الدرع وأخبر خالد أبا بكر بتلك الرؤيا فأجاز أبو بكر وصيته قال مالك بن أنس‏:‏ لا أعلم وصية أجيزت بعد موت صاحبها إلا هذه‏.‏ قال أبو هريرة وابن عباس‏:‏ لما نزلت هذه الآية كان أبو بكر لا يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كأخي السرار‏.‏ وقال ابن الزبير‏:‏ لما نزلت هذه الآية ما حدث عمر النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فسمع النبي صلى الله عليه وسلم كلامه حتى يستفهمه مما يخفض صوته فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين يغضون‏}‏ أي يخفضون أصواتهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أي إجلالاً له وتعظيماً ‏{‏أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى‏}‏ أي اختبرها وأخلصها كما يمتحن الذهب بالنار ليخرج خالصه ‏{‏لهم مغفرة وأجر عظيم‏}‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إن الذين ينادونك من وراء الحجرات‏}‏‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى بني العنبر وأمر عليهم عيينة بن حصن الفزاري فلما علموا أنه توجه نحوهم، هربوا وتركوا عيالهم، فسباهم عيينة وقدم بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فجاءه بعد ذلك رجالهم يفدون الذراري فقدموا وقت الظهيرة ووافقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً في أهله، فلما رأتهم الذراري أجهشوا إلى آبائهم يبكون وكان لكل امرأة من نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرة فعجلوا قبل أن يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلوا ينادون‏:‏ يا محمد اخرج إلينا‏.‏ حتى أيقظوه من نومه فخرج إليهم، فقالوا‏:‏ يا محمد فادنا عيالنا فنزل جبريل عليه السلام فقال‏:‏ إن الله تعالى يأمرك أن تجعل بينك وبينهم رجلاً‏.‏ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أترضوا أن يكون بيني وبينكم سبرة بن عمرو وهو على دينكم‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم‏.‏ قال سبرة‏:‏ أنا لا أحكم إلا وعمي شاهد وهو الأعور بن بشامة، فرضوا به، فقال الأعور‏:‏ أرى أن تفادي نصفهم وتعتق نصفهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ قد رضيت»

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم‏}‏ فيه بيان لحسن الأدب وهو خلاف ما جاؤوا به من سوء الأدب وطلب العجلة في الخروج ‏{‏لكان خيراً لهم‏}‏ أي الصبر لأنك كنت تعتقهم جميعاً وتطلقهم بلا فداء‏.‏ وقيل‏:‏ لكان حسن الأدب في طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم خيراً لهم‏:‏ وقيل‏:‏ نزلت الآية في ناس من أعراب تميم وكأن فيهم الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن والزبرقان بن بدر فنادوا على الباب‏.‏ ويروى ذلك عن جابر قال‏:‏ جاءت بنو تميم فنادوا على الباب فقالوا‏:‏ يا محمد اخرج علينا فإن مدحنا زين وذمنا شين فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول‏:‏ «إنما ذلكم الله الذي مدحه زين وذمه شين» قالوا نحن ناس من تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا جئنا نشاعرك ونفاخرك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما بالشعر بعثت ولا بالفخر أمرت، ولكن هاتوا» فقام منهم شاب فذكر فضله وفضل قومه فقال النبي صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس، وكان خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «قم فأجبه» فقام فأجابه وقام شاعرهم فذكر أبياتاً فقال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت‏:‏ «أجبه» فأجابه فقام الأقرع بن حابس فقال‏:‏ إن محمد المؤتى له تكلم خطيبنا فكان خطيبهم أحسن قولاً وتكلم شاعرنا فكان شاعرهم أحسن شعراً وقولاً ثم دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما يضرك ما كان قبل هذا» ثم أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكساهم وقد كان تخلف في ركابهم عمرو بن الأهتم لحداثة سنه فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما أعطاهم فأزرى به بعضهم وارتفعت الأصوات وكثر اللغط عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل فيهم‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي‏}‏ الآيات إلى قوله ‏{‏والله غفور رحيم‏}‏ أي لمن تاب منهم‏.‏ وقال زيد بن أرقم‏:‏ جاء ناس من العرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ وقال بعضهم لبعض‏:‏ انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم لبعض‏:‏ انطلقوا بنا إلى هذا الرجل فإن يكن نبياً فنحن أسعد الناس به، وإن يكن ملكاً نعش في جنابه فجاؤوا فجعلوا ينادونه‏:‏ يا محمد يا محمد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 9‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ‏(‏6‏)‏ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ‏(‏7‏)‏ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏8‏)‏ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا‏}‏ الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق بعد الوقعة مصدقاً وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية، فلما سمع به القوم تلقوه تعظيماً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله، فهابهم فرجع من الطريق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ إن بني المصطلق قد منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلي فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أن يغزوهم فبلغ القوم رجوع الوليد فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا‏:‏ يا رسول الله سمعنا برسولك فخرجنا نتلقاه ونكرمه ونؤدي له ما قبلناه من حق الله فبدا له الرجوع فخشينا أنه إنما رده من الطريق كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا وإنا نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله فاتهمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث خالد بن الوليد خفية في عسكر وأمره أن يخفي عليهم قدومه، وقال‏:‏ انظر فإن رأيت منهم ما يدل على إيمانهم فخذ منهم زكاة أموالهم وإن لم تر ذلك، فاستعمل فيهم ما تستعمل في الكفار ففعل ذلك خالد‏.‏ فوافاهم فسمع منهم أذان المغرب والعشاء فأخذ منهم صدقاتهم ولم ير منهم إلا الطاعة والخير فانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق‏}‏ يعني الوليد بن عقبة‏.‏

وقيل‏:‏ هو عام نزلت لبيان التثبت وترك الاعتماد على قول الفاسق وهو أولى من حكم الآية على رجل بعينه، لأن الفسوق خروج عن الحق ولا يظن بالوليد ذلك إلا أنه ظن وتوهم فأخطأ، فعلى هذا يكون معنى الآية‏:‏ إن جاءكم فاسق بنبأ، أي بخبر، فتبينوا‏.‏ وقرئ‏:‏ فتثبتوا، أي‏:‏ فتوقفوا واطلبوا بيان الأمر وانكشاف الحقيقة ولا تعتمدوا على قول الفاسق ‏{‏أن تصيبوا‏}‏ أي كيلا تصيبوا بالقتل والسبي ‏{‏قوماً بجهالة‏}‏ أي جاهلين حاله وحقيقة أمرهم ‏{‏فتصبحوا على ما فعلتم‏}‏ أي من إصابتكم بالخطأ ‏{‏نادمين واعلموا أن فيكم رسول الله‏}‏ أي‏:‏ قاتقوا الله أن تقولوا باطلاً أو تكذبوه فإن الله يخبره ويعرفه حالكم فتفتضحوا ‏{‏لو يطيعكم‏}‏ أي الرسول ‏{‏في كثير من الأمر‏}‏ أي مما تخبرونه به فيحكم برأيكم ‏{‏لعنتم‏}‏ أي لأثمتم وهلكتم عن أبي سعيد الخدري «أنه قرأ ‏{‏واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم‏}‏ قال‏:‏ هذا نبيكم يوحى إليه وخيار أئمتكم لو أطاعهم في كثير من الأمر لعنتوا فكيف بكم اليوم» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح غريب ‏{‏ولكن الله حبب إليكم الإيمان‏}‏ أي جعله أحب الأديان إليكم ‏{‏وزينة‏}‏ أي حسنة وقربه منكم وأدخله ‏{‏في قلوبكم‏}‏ حتى اخترتموه لأن من أحب شيئاً إذا طال عليه قد يسأم منه والإيمان في كل يوم يزداد في القلب حسناً وثباتاً وبذلك تطيعون رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏وكره إليكم الكفر والفسوق‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد الكذب ‏{‏والعصيان‏}‏ جميع معاصي الله تعالى وفي هذه لطيفة، وهو أن الله تعالى ذكر هذه الثلاثة الأشياء في مقابلة الإيمان الكامل المزين في القلب المحبب إليه‏.‏

والإيمان الكامل‏:‏ ما اجتمع فيه ثلاثة أمور‏:‏ تصديق بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان‏.‏ فقوله‏:‏ وكره إليكم الكفر في مقابله‏.‏

قوله‏:‏ حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وهو التصديق بالجنان والفسوق وهو الكذب في مقابلة الإقرار باللسان فكره إلى عبده المؤمن الكذب وهو الجحود وحبب إليه الإقرار بشهادة الحق والصدق وهو‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏ والعصيان في مقابلة العمل بالأركان فكره إليه العصيان وحبب إليه العمل الصالح بالأركان ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك هم الراشدون‏}‏ إشارة إلى المؤمنين المحبب إليهم الإيمان المزين في قلوبهم أي‏:‏ أولئك هم المهتدون إلى محاسن الأعمال ومكارم الأخلاق ‏{‏فضلاً من الله‏}‏ أي فعل ذلك بكم فضلاً منه ‏{‏ونعمة‏}‏ عليكم ‏{‏والله عليم‏}‏ أي بكم وبما في قلوبكم ‏{‏حكيم‏}‏ في أمره بما تقتضيه الحكمة وقيل عليم بما في خزائنه من الخير والرحمة والفضل والنعمة حكيم بما ينزل من الخير بقدر الحاجة إليه على وفق الحكم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا‏}‏‏.‏ ‏(‏ق‏)‏ عن أنس قال‏:‏ قيل للنبي صلى الله عليه وسلم لو أتيت عبد الله بن أبيّ‏.‏ فانطلق إليه النبي صلى الله عليه وسلم فركب حماراً وانطلق المسلمون يمشون معه وهي أرض سبخة، فلما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ إليك عني والله لقد آذاني نتن حمارك‏.‏ فقال رجل من الأنصار‏:‏ والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحاً منك‏.‏ فغضب لعبد الله رجل من قومه، فتشاتما، فغضب لكل واحد منهما أصحابه فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال فبلغنا أنها نزلت فيهم‏:‏ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما‏.‏

ويروى أنها لما نزلت قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم فأصلحوا وكف بعضهم عن بعض‏.‏ ‏(‏ق‏)‏ عن أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمار عليه إكاف تحته قطيفة فدكية وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر قال‏:‏ فسار حتى مر على مجلس فيه عبد الله بن أبي ابن سلول وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبيّ‏.‏ وإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأصنام واليهود وفي المسلمين عبد الله بن رواحة فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر عبد الله بن أبيّ أنفه بردائه ثم قال‏:‏ لا تغيروا علينا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏إنما المؤمنون إخوة‏}‏ أي في الدين والولاية ذلك أن الإيمان وقد عقد بين أهله من السبب والقرابة كعقد النسب الملاصق وإن بينهم ما بين الإخوة من النسب والإسلام لهم كالأب قال بعضهم‏:‏

أبي الإسلام لا أب لي سواه *** إذا افتخروا بقيس أو تميم

‏{‏فأصلحوا بين أخويكم‏}‏ أي إذا اختلفا واقتتلا ‏{‏واتقوا الله‏}‏ أي فلا تعصوه ولا تخالفوا أمره ‏{‏لعلكم ترحمون‏}‏ ‏(‏ق‏)‏‏.‏

عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يشتمه‏.‏ ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته‏.‏ ومن فرَّج عن مسلم كربة فرج الله بها عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلماً ستره الله تعالى يوم القيامة» والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده‏.‏

‏(‏فصل في حكم قتال البغاة‏)‏

قال العلماء‏:‏ في هاتين الآيتين دليل على أن البغي لا يزيل اسم الإيمان، لأن الله تعالى سماهم إخوة مؤمنين مع كونهم باغين ويدل عليه ما روي عن علي بن أبي طالب، وهو القدوة في قتال أهل البغي، وقد سئل عن أهل الجمل وصفين أمشركون هم‏؟‏ فقال‏:‏ لا إنهم من الشرك فروا‏.‏ فقيل‏:‏ أمنافقون هم‏؟‏ فقال‏:‏ لا إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً‏.‏ قيل‏:‏ فما حالهم‏؟‏ قال‏:‏ إخواننا بغوا علينا‏.‏ والباغي في الشرع‏:‏ هو الخارج على الإمام العدل فإذا اجتمعت طائفة لهم قوة ومنعة فامتنعوا عن طاعة الإمام العدل بتأويل محتمل ونصبوا لهم إماماً فالحكم فيهم أن يبعث إليهم الإمام ويدعوهم إلى طاعته، فإن أظهروا مظلمة أزالها عنهم وإن لم يذكروا مظلمة وأصروا على البغي قاتلهم الإمام حتى يفيئوا إلى طاعته‏.‏ ثم الحكم في قتالهم أن لا يتبع مدبرهم ولا يقتل أسيرهم ولا يذفف على جريحهم نادى منادي على يوم الجمل‏:‏ ألا لا يتبع مدبر ولا يقتل أسير ولا يذفف على جريح، وهو بذال معجمة، وهو الإجهاز على الجريح وتحرير قتله وتتميمه‏.‏ وأتي علي يوم صفين بأسير فقال‏:‏ لا أقتلك صبراً إني أخاف الله رب العالمين‏.‏ وما أتلفت إحدى الطائفتين على الأخرى في حال القتال من نفس ومال فلا ضمان عليها قال ابن شهاب كانت في تلك الفتنة دماء يعرف في بعضها القاتل والمقتول وأتلف فيها أموال ثم صار الناس إلى أن سكنت الحرب بينهم وجرى الحكم عليهم فما رأيته اقتص من أحد ولا أغرم مالاً‏.‏ أما من لم تجتمع فيه هذه الشروط الثلاثة‏:‏ بأن كانوا جماعة قليلين لا منعة لهم، أو لم يكن لهم تأويل، أو لم ينصبوا إماماً، فلا يتعرض لهم إذا لم ينصبوا قتالاً ولم يتعرضوا للمسلمين فإن فعلوا ذلك فهم كقطاع الطريق في الحكم‏.‏

وروي أن علياً سمع رجلاً يقول في ناحية المسجد‏:‏ لا حكم إلا الله‏.‏ فقال علي‏:‏ كلمة حق أريد بها باطل‏.‏ لكم علينا ثلاثة‏:‏ لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نبدؤكم بقتال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم‏}‏ الآية نزلت في ثلاثة أسباب‏:‏ السبب الأول‏:‏ من أولها إلى قوله خيراً منهم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وذلك أنه كان في أذنه وقر، فكان إذا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سبقوه بالمجلس أوسعوا له حتى يجلس إلى جنبه فيسمع ما يقول، فأقبل ذات يوم وقد فاتته ركعة من صلاة الفجر فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة، أخذ أصحابه مجالسهم فظل كل رجل بمجلسه فلا يكاد يوسع أحد لأحد وكان الرجل إذا جاء فلم يجد مجلساً قام قائماً كما هو فلما فرغ ثابت من الصلاة أقبل نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخطى رقاب الناس ثم يقول‏:‏ تفسحوا تفسحوا‏.‏ فجعلوا يتفسحون له حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينه وبينه رجل فقال‏:‏ تفسح‏.‏ فقال له الرجل‏:‏ أصبت مجلساً فاجلس‏.‏ فجلس ثابت خلفه مغضباً، فلما اأنجلت الظلمة غمز ثابت الرجل فقال‏:‏ من هذا‏؟‏ قال أنا فلان‏.‏ قال له ثابت‏:‏ ابن فلانة وذكر أماً له كان يعيَّر بها في الجاهلية‏.‏ فنكس الرجل رأسه واستحيا فأنزل الله هذه الآية‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ نزلت في وفد بني تميم الذين ذكرناهم وكانوا يستهزئون بفقراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل عمار وخباب وبلال وصهيب وسلمان وسالم مولى أبي حذيفة لما رأوه من رثاثة حالهم فأنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم‏.‏ أي‏:‏ لا يستهزئ غني بفقير ولا مستور عليه ذنبه بمن لم يستر ولا ذو حسب بلئيم وأشباه ذلك مما ينتقصه به ولعله عند الله خير منه وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عسى أن يكونوا خيراً منهم‏}‏ السبب الثاني قوله‏:‏ ‏{‏ولا نساء من نساء‏}‏ أي لا يستهزئ نساء من نساء ‏{‏عسى أن يكنَّ خيراً منهن‏}‏ روي عن أنس أنها نزلت في نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم عيرن أم سلمة بالقصر‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ «أنها نزلت في صفية بنت حيي قال لها بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ يهودية بنت يهوديين‏.‏ عن أنس‏:‏ بلغ صفية أن حفصة قالت بنت يهودي فبكت فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي فقال‏:‏ ما يبكيك‏؟‏ قالت‏:‏ قالت لي حفصة إني بنت يهودي فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنك لابنة نبي وعمك لنبي وإنك لتحت نبي ففيم تفتخر عليك ثم قال‏:‏ اتقي الله يا حفصة» أخرجه الترمذي وقال‏:‏ حديث حسن صحيح غريب‏.‏

والسبب الثالث قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب‏}‏ عن أبي جبيرة بن الضحاك وهو أخو ثابت بن الضحاك الأنصاري قال‏:‏ فينا نزلت هذه الآية في بني سلمة

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ‏(‏12‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن‏}‏ قيل‏:‏ نزلت في رجلين اغتابا رفيقهما وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا أو سافر ضم الرجل المحتاج إلى رجلين موسرين يخدمهما ويتقدمهما إلى المنزل فيهئ لهما ما يصلحهما من الطعام والشراب فضم سلمان الفارسي إلى رجلين في بعض أسفاره، فتقدم سلمان إلى المنزل فغلبته عيناه فنام ولم يهيئ شيئاً لهما فلما قدما قالا له‏:‏ ما صنعت شيئاً‏.‏ قال‏:‏ لا غلبتني عيناي فنمت قالا له‏:‏ انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطلب لنا منه طعاماً فجاء سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله طعاماً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق إلى أسامة بن زيد وقل له‏:‏ إن كان عنده فضل طعام وأدم فليعطك وكان أسامة خازن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رحله فأتاه فقال ما عندي شيء فرجع سلمان إليهما فأخبرهما فقالا كان عند أسامة طعام ولكن بخل فبعثا سلمان إلى طائفة من الصحابة فلم يجد عندهم شيئاً فلما رجع قالا‏:‏ لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها ثم انطلقا يتجسسان هل عند أسامة ما أمر لهما به رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما‏:‏ ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما‏؟‏ قالا‏:‏ والله يا رسول الله ما تناولنا يومنا هذا لحماً‏.‏ قال‏:‏ ظللتما تأكلان لحم سلمان وأسامة فأنزل الله عز وجل‏:‏ يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن يعني أن يظن بأهل الخير سوءاً فنهى الله المؤمن أن يظن بأخيه المؤمن شراً وقيل هو أن يسمع من أخيه المسلم كلاماً لا يريد به سوءاً أو يدخل مدخلاً لا يريد به سوءاً فيراه أخوه المسلم فيظن شراً لأن بعض الفعل قد يكون في الصورة قبيحاً وفي نفس الأمر لا يكون كذلك لجواز أن يكون فاعله ساهياً أو يكون الرائي مخطئاً فأما أهل السوء والفسق المجاهرون بذلك فلنا أن نظن فيهم مثل الذي يظهر منهم ‏{‏إن بعض الظن إثم‏}‏‏.‏ قال سفيان الثوري‏:‏ الظن ظنان‏:‏ أحدهما‏:‏ إثم، وهو أن يظن ويتكلم به والآخر ليس بإثم وهو أن يظن ولا يتكلم به‏.‏ وقيل‏:‏ الظن أنواع فمنه واجب ومأمور به وهو الظن الحسن بالله عز وجل ومنه مندوب إليه وهو الظن الحسن بالأخ المسلم الظاهر العدالة ومنه حرام محظور وهو سوء الظن بالله عز وجل وسوء الظن بالأخ المسلم ‏{‏ولا تجسسوا‏}‏ أي لا تبحثوا عن عيوب الناس نهى الله عن البحث عن المستور من أمور الناس وتتبع عوراتهم حتى يظهر على ما ستره الله منها ‏(‏ق‏)‏‏.‏

عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره التقوى هاهنا التقوى هاهنا ويشير إلى صدره التقوى هاهنا‏.‏

التقوى هاهنا بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم وأعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم» التجسس بالجيم التفتيش عن بواطن الأمور وأكثر ما يقال في الشر ومنه الجاسوس وبالحاء هو الاستماع إلى حديث الغير‏.‏ وقيل‏:‏ معناهما واحد وهو طلب الأخبار‏.‏ وقوله‏:‏ ولا تنافسوا أي لا ترغبوا فيما يرغب فيه الغير من أسباب الدنيا وحظوظها والحسد تمني زوال النعمة عن صاحبها‏.‏ قوله‏:‏ ولا تدابروا أي لا يعطي كل واحد منكم أخاه دبره وقفاه فيعرض عنه ويهجره‏.‏

عن ابن عمر قال‏:‏ «صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فنادى بصوت رفيع يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عن عوراتهم فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله» قال نافع‏:‏ ونظر ابن عمر يوماً إلى الكعبة فقال‏:‏ ما أعظمك وأعظم حرمتك‏.‏ والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك أخرجه الترمذي‏.‏ وقال‏:‏ حديث حسن غريب عن زيد بن وهب‏.‏ قال‏:‏ أتى ابن مسعود فقيل له‏:‏ هذا فلان تقطر لحيته خمراً‏.‏ فقال عبد الله‏:‏ إنا قد نهينا عن التجسس ولكن إن يظهر إلينا شيء نأخذ به أخرجه أبو داود وله عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من رأى عورة فسترها كان كمن أحيا موءودة» ‏(‏م‏)‏ عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا يستر عبد عبداً في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة»‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يغتب بعضكم بعضاً‏}‏ أي لا يتناول بعضكم بظهر الغيب بما يسوءه مما هو فيه‏.‏ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «أتدرون ما الغيبة‏؟‏ قلت الله ورسوله أعلم قال ذكرك أخاك بما يكره قلت وإن كان في أخي ما أقول قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه قد بهته» أخرجه مسلم عن عائشة قالت‏:‏ «قلت للنبي صلى الله عليه وسلم حسبك من صفية كذا وكذا قال بعض الرواة تعني قصيرة فقال لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته قالت وحكيت له إنساناً فقال ما أحب أني حكيت إنساناً وإن لي كذا وكذا»

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ نزلت في ثابت بن قيس بن شماس‏.‏ وقوله في الرجل الذي لم يفسح له ابن فلانة فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ من الذاكر فلانة‏؟‏ قال ثابت‏:‏ أنا رسول الله قال انظر في وجوه القوم فنظر فقال ما رأيت يا ثابت‏؟‏ قال رأيت أبيض وأحمر وأسود قال فإنك لا تفضلهم إلا بالدين والتقوى فنزلت في ثابت هذه الآية ونزل في الذي لم يفسح له ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا‏}‏ الآية‏.‏ وقيل‏:‏ لما كان يوم فتح مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً حتى علا على ظهر الكعبة وأذن فقال عتاب بن أسيد الحمد لله الذي قبض أبي ولم ير هذا اليوم وقال الحارث بن هشام أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذناً وقال سهيل بن عمرو إن يكره الله شيئاً يغيره‏.‏

وقال أبو سفيان‏:‏ إني لا أقول شيئاً أخاف أن يخبره رب السماء فنزل جبريل فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قالوا وسألهم عما قالوا فأقروا فأنزل الله هذه الآية وزجرهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والإزراء بالفقراء فقال ‏{‏يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى‏}‏ يعني آدم وحواء‏.‏ والمعنى‏:‏ إنكم متساوون في النسب فلا تفاخر لبعض على بعض لكونكم أبناء رجل واحد وامرأة واحدة‏.‏ وقيل‏:‏ يحتمل أن يكون المعنى إنا خلقنا كل واحد منكم أيها الموجودون من أب وأم فإن كل واحد منكم خلق كما خلق الآخر سواء فلا وجه للتفاخر والتفاضل في النسب ‏{‏وجعلناكم شعوباً‏}‏ جمع شعب بفتح الشين وهي رؤوس القبائل مثل ربيعة ومضر والأوس والخزرج سموا شعوباً لتشعب القبائل منهم وقيل لتجمعهم ‏{‏وقبائل‏}‏ جمع قبيلة وهي دون الشعوب كبكر من ربيعة وتميم من مضر ودون القبائل العمائر واحدتها عمارة بفتح العين وهم كشيبان من بكر ودارم من تميم ودون العمائر البطون واحدتها بطن وهم كبني غالب ولؤي من قريش ودون البطون الأفخاذ واحدتها فخذ وهم كبني هاشم وبني أمية من لؤي ودون الأفخاذ الفصائل واحدتها فصيلة بالصاد المهملة كبني العباس من بني هاشم ثم بعد ذلك العشائر واحدتها عشيرة وليس بعد العشيرة شيء يوصف‏.‏ وقيل‏:‏ الشعوب للعجم، والقبائل‏:‏ للعرب، والأسباط‏:‏ من بني إسرائيل‏.‏ وقيل‏:‏ الشعوب الذين لا ينسبون إلى أحد بل ينسبون إلى المدائن والقرى والقبائل الذين ينتسبون إلى آبائهم‏.‏

‏{‏لتعارفوا‏}‏ أي ليعرف بعضكم بعضاً في قرب النسب وبعده لا للتفاخر بالأنساب ثم بين الخصلة التي بها يفضل الإنسان على غيره ويكتسب بها الشرف عند الله تعالى فقال‏:‏ ‏{‏إن أكرمكم عند الله أتقاكم‏}‏ قيل‏:‏ أكرم الكرم التقوى، وألأم اللؤم الفجور‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏14‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالت الأعراب آمنا‏}‏ الآية نزلت في نفر من بني أسد بن خزيمة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة مجدبة فأظهروا الإسلام، ولم يكونوا مؤمنين في السر، فأفسدوا طرق المدينة بالقذرات وأغلوا أسعارها وكانوا يغدون ويروحون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ويقولون‏:‏ أتتك العرب أنفسهم على ظهور رواحلها وجئناك بالأثقال والعيال والذراري ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان، يمنون على رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ويريدون الصدقة، ويقولون‏:‏ أعطنا فأنزل الله فيهم هذه الآية‏.‏

وقيل‏:‏ نزلت في الأعراب الذين ذكرهم الله في سورة الفتح وهم جهينة ومزينة وأسلم وأشجع وغفار كانوا يقولون آمنا ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم فلما استنفروا للحديبية تخلفوا عنها فأنزل الله عز وجل قالت الأعراب آمنا أي صدقنا ‏{‏قل لم تؤمنوا‏}‏ أي لم تصدقوا بقلوبكم ‏{‏ولكن قولوا أسلمنا‏}‏ أي استسلمنا وانقدنا مخافة القتل والسبي ‏{‏ولما يدخل الإيمان في قلوبكم‏}‏ أخبر أن حقيقة الإيمان هو التصديق بالقلب وأن الإقرار باللسان وإظهار شرائعه بالأبدان لا يكون إيماناً دون التصديق بالقلب والإخلاص‏.‏ ‏(‏ق‏)‏ عن سعد بن أبي وقاص قال‏:‏ «أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطاً وأنا جالس فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً منهم هو أعجبهم إليّ فقلت ما لك عن فلان والله إني لأراه مؤمناً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مسلماً ذكر ذلك سعد ثلاثاً وأجابه بمثل ذلك ثم قال إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكب في النار على وجهه» زاد في رواية قال الزهري‏:‏ «فترى أن الإسلام الكلمة والإيمان العمل الصالح» لفظ الحميدي اعلم أن الإسلام هو الدخول في السلم وهو الانقياد والطاعة فمن الإسلام ما هو طاعة على الحقيقة باللسان والأبدان والجنان لقوله لإبراهيم عليه السلام‏:‏ ‏{‏أسلم قال أسلمت لرب العالمين‏}‏ ومنه ما هو انقياد باللسان والقلب وذلك قوله‏:‏ ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم‏.‏ «وقيل‏:‏ الإيمان هو التصديق بالقلب مع الثقة وطمأنينة النفس عليه والإسلام هو الدخول في السلم والخروج من أن يكون حرباً للمسلمين مع إظهار الشهادتين‏.‏

فإن قلت‏:‏ المؤمن والمسلم واحد عند أهل السنة فكيف يفهم ذلك مع هذا القول‏.‏

قلت بين العام والخاص فرق فالإيمان لا يحصل إلا بالقلب والانقياد قد يحصل بالقلب وقد يحصل باللسان فالإسلام أعم والإيمان أخص لكن العام في صورة الخاص متحد مع الخاص ولا يكون أمراً غيره فالعام والخاص مختلفان في العموم والخصوص متحدان في الوجود فذلك المؤمن والمسلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تطيعوا الله ورسوله‏}‏ أي ظاهراً وباطناً سراً وعلانية وقال ابن عباس تخلصوا له الإيمان ‏{‏لا يلتكم‏}‏ أي لا ينقصكم ‏{‏من أعمالكم شيئاً‏}‏ أي من ثواب أعمالكم ‏{‏إن الله غفور رحيم‏}‏ ثم بين حقيقة الإيمان

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 18‏]‏

‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ‏(‏15‏)‏ قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏16‏)‏ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏17‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا‏}‏ أي لم يشكوا في دينهم ‏{‏وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون‏}‏ أي في إيمانهم ولما نزلت هاتان الآيتان أتت الأعراب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحلفون بالله إنهم مؤمنون صادقون وعرف الله منهم غير ذلك فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏قل أتعلمون الله بدينكم‏}‏ أي تخبرون الله بدينكم الذي أنتم عليه ‏{‏والله يعلم ما في السموات وما في الأرض‏}‏ أي لا تخفى عليه خافية ‏{‏والله بكل شيء عليم‏}‏ أي لا يحتاج إلى إخباركم ‏{‏يمنون عليك أن أسلموا‏}‏ هو قولهم أسلمنا ولم نحاربك يمنون بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبين بذلك أن إسلامهم لم يكن خالصاً ‏{‏قل لا تمنوا على إسلامكم‏}‏ أي لا تعتدوا عليّ بإسلامكم ‏{‏بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان‏}‏ أي لله المنة عليكم أن أرشدكم وأمدكم بتوفيقه حيث هداكم للإيمان على ما زعمتم وادعيتم وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن كنتم صادقين‏}‏ أي إنكم مؤمنون ‏{‏إن الله يعلم غيب السموات والأرض‏}‏ أي إنه سبحانه وتعالى لا يخفى عليه شيء في السموات والأرض فكيف يخفى عليه حالكم بل يعلم سركم وعلانيتكم ‏{‏والله بصير بما تعملون‏}‏ أي بجوارحكم الظاهرة والباطنة والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏